غادر مدينته من أجل ثلاثة أشياء، إن حدثت فإن لحياته معنى، وأنها حياة تستحق أن تعاش، وإن لم تحدث ويلتقي بأشياءه الثلاثة، فمعنى ذلك ينجلي ويتضح أن ما يعيشه في مدينته هو القدر، وأن الانسان لا يمكن أن يصنع قدره.
بعدما اجتاز عشرات المدن، ومكث في كل منها بعض الوقت. صار له وجه من تقاذفته الطرقات، سمرة من المعانات الباطنية، كثاثة في الشعر لطول العهد ما بين اغتسال و آخر. رثاثة في الثياب جراء تعرضها لعوامل التعرية. تماما مثلما يحدث حتى مع الحجر.
وكان كل بلد يزوره يجرده من مقوم ما،. مما يقيم ذاته ، لم يعد له طبع التطواني.، صار له طبع كل المغاربة. إن شاء أن يحدثك بالجبلية أو العروبية او الريفية أو الأمازيغية حدثك. اخذ من كل واحد من هؤلاء، فصار كلهم.
وحين تجلس إليه ويحدثك تكشف أن الرجل، أحد الرجلين، عبقري أو مجنون، كون ما يقوله لا تسمعه طول الوقت، وهو من فرط اختلافه عن الأحاديث المتداولة يرسخ انطباع الجنون أو العبقرية. يقال أن شعرة فقط تفصل بينهما، كانت تلك مجرد فكرة، منه، معه اصبحت حقيقة.
الإشارة الأولى كانت الأقرب إلى قلبه و الأكثر إلحاحا.
إشارة ستقوده حتما لاكتشاف نصفه الثاني، التي ستأتيه بنسله وستضيف قيمة ارتأى ان له فتاة من فتيات تطوان تمتلكها.
كان متيقنا تماما أنه أثناء تجواله سيلتقي بفتاته المنشودة، وعلى جيدها سلسلة فصها على شكل قلب، لا يهم إن كانت من ذهب أم من فضة أم من نحاس، الأهم فتاة على جيدها فص على شكل قلب.
وحين سيلتقيها بلا أدنى تردد، سيقترب منها بهدوء ووقار،وسيقول لها اسمها، لأنها فتاته المنشودة عرفته به ذات مونولوج في طريق يربط بين طريق مدينة وطريق قبيلة لا يتذكر اسمهما، وسيقول لها هذه العبارة التي ستنفذ إلى ما فطرت عليه، وستدرك أن رجلها أخيرا وصل.
لقد جئتك بقلب مثقل بالهموم ، فهل تقبلين أن أريحه على صدرك
فإذا كانت تلك الفتاة عروسه المنتظرة، سترد عليه إن الرمز الذي أحمله، والذي طال العهد به جاثما على صدري، دليلك الساطع على استعدادي لذلك هذه الإشارة أو الهدف الأول.
*********************************************
الهدف الثاني الذي يبحث عنه في كل مكان. سببه أحاديث يتناقلها الناس فيما بينهم حول كنوز دفنها آباءنا الأولين واحد تلك الكنوز المدفونة من عهد سام وحام فنزلا . كنزه هو الذي لا يحتاج لا لدم صبي وطلاسم جن . في مكان ما في رحلة البحث الطويلة سيجد يدا ممدودة. تلك اليد ليست يدا بالضرورة قد تكون غصنا من شجر، مدلى قد تكون حجرا مثبتا، أو أي شيء آخر يشبه يد وحيث تشير اليد، فها هناك كنزه الموعود. الذي سيتجه إليه مباشرة و يرفعه. قد يكون ليرات ذهبية أو سبائك ذهب أو تيجان. المهم شيء ثمين ولا يهم إن لم يكن ذهبا. كنزا كافيا لتغطية كافة حاجياته ليرتفع بفتاته الموعودة إلى حياة ليست كأي حياة.
*********************************************
الإشارة الثالثة و الأخيرة. زعامة أو رئاسة شيء ما، لا يدري أية زعامة ورئاسة . المهم هو أنه عندما سيعود إلى تطوان. لن يعد كما خرج، سيعود ليتبوأ مكانة زعامة، يتصوره أحيانا مذهب ما يقدمه إلى العالم ويكون هو الداعية إليه ومتزعمه. أو قيادة حربية بالغة الخطورة لشعب يناضل من أجل نيل استقلاله،هو شخصيا لم يحدد ماهية زعامته التي ستكون شغله اليومي ومهمته الدنيوية.
لديه الإشارة فقط. وهي قدوم ثلاثة شباب، بادية عليهم النعمة،لابسين وفق موضة العام، بأيديهم أشياء سوداء وبيضاء ورمادية، أكبرهم سنا، سيتقدم إليه وسيبلغه الرسالة التي اختارته العناية اٌلٌلإلهية لها، بأسلوب رزين وهادىء ووقور أقرب إلى الطمأنينة وتريث الشيوخ في الحكي.
********************************************
هذه هي الأهداف الثلاثة، وإشاراتها الرمزية، هل نجح الرجل في نيلها.
طبعا.. لا.
جاب المغرب من شماله إلى شرقه. ومن شرقه إلى صحراءه. ومن صحراءه إلى جنوبه، ومن جنوبه إلى شماله.
لم يعرف حين وصل إلى تطوان أنه في تطوان لم يكن يقرأ اللوحات التشويرية. ولم يكن يسأل أحدا.
كان ينظرر فقط إلى الشجر والحجر والنار فشجرة أو حجر أو لهب سيقوده إلى كنزه، كان ينظر إلى أعناق الفتيات فإحداهن تحمل الفص المنشود و ينظر إلى الجماعات ، وخاصة غلى الجماعة المكونة من ثلاث شبان..
حين وصل إلى تطوان لم يعرف أنها تطوان بسبب التغير الجذري الذي طال مدخلها الغربي. ولفت نظره أكثر اصطفاف الأشجار على طول المدخل وأكثر الأحجار المدلاة، كان طول الوقت يبحث عن اليد الممدودة. تقاذفته الطرق حتى بلغ المدينة القديمة، إنها باب العقلة حدث نفسه. يا إلهي إنها باب العقلة حقا، اجتازها.
هذه اسقالة، ومن هنا تعبر إلى صباط الدايز ومنه إلى الملاح.
في المدينة القديمة لم يتغير شيء، ويمكن أن أذهب حدث نفسه واقضي عشرات السنين الأخرى. و أعود وأجد المدينة هي المدينة.
في الملاح وجد الطريق محفورا، وثمة عمال يخوضون في الوادي الحار. ورائحة نتنة تمتزج بروائح الطبيخ المنبعثة من مقالي قلي السمك في المطاعم الشعبية ،ورائحة العفونة المنبعثة من الحطان التي هرتها الرطوبة هاهو دربنا.
وها هو ابن الغماري ، لقد كبر وأصبح في عمر أبيه تراءت له وجوه أخرى يعرفها فتية وغضة، شاخ الأطفال يإلهي، أنا ما الذي صرت إليه. ياه ،كم من الوقت مضى.
لا يتذكر المرة الأخيرة التي رنا فيها إلى وجهه مليا.
كان إهابه كله ينعكس على زجاج السيارات الواقفة ، وكان يكتفي بنظرة عابرة لإهابه.
جلس في ذات المقهى الذي كان يجلس فيها. مقهى رضا ، نفس النادل، صلع واكتنز فقط.
حدث نفسه ، ها أنذا في ذات المكان القديم، لم أسع إليه، ذات القدر الذي طوح بي في ربوع المغرب عاد بي، لست أنا من غادر. ولست أنا من عاد. وما هذا.
هل ما نذرت له نفسي باطل كقبض الريح.
هل ضاعت عشرات السنين بحثا عن وهم . أيمكن أن يبلغ عبث الانسان بمصيره هذا المبلغ.وهل بيد الانسان أن يعبث.؟ ماذا هل رأفة علوية قادتني إلى موطني أم يجب أن أستمر إلى أن أرى اليد الممدودة والفص المعلق على عنق. والشباب الثلاث. الأصح ها هنا والآن، درت دورتي الكاملة. ولربما يجب أن أدور ثلاث دورات، ولا أحسب أن في العمر بقية تكفي لدورتين.
الأصح هو عدت و أنا لا أدري.كما ذهبت وأنا لا أدري.
غادر مقهاه القديمة، عاد إلى دربه القديم ، في مدخله التقى أم صديقه القديم التي كانت بمثابة أمه الثانية، رنت إليه ، ارتابت في أمره، بعث لها بابتسامة لا تعبر عن شيء واستأنف طريقه إلى بيت أمه.
طرقه. انفتح الباب على وجه أمه، إنها الأم وهو ابنها ، بمجرد ما أن لمحته ، أدركت من هو ، كان حريا به أن يبادل أمه شعور الفرح الغامر الذي اكتسح قلبها لكنه كان بهث، ذلك ما حصل معه، بهث من عنق أمه أمه، كان يتدلى فص على شكل قلب.
فسرت أمه الحيرة التي غمرته. بالفشل الذي حاق به في غيابه الطويل. و لا ريب أن رجلا عركته المعانات ولم يصب شيء من دنياه، لا بد و أن يكون حائرا، لا كان الأمر واضحا للغاية، فتاته التي كانت سترفع حياته إلى حياة ليست كأي حياة هي أمه، وليس أي أنثى أخرى.
توالت الأيام، وأعاد صلات قديمة وصدقات قديمة. تلك ربطته بصلات أخرى. اكتشف أن كنزه الحقيقي، والذي لن ينضب مهما غرف منه. هو مجموع الحرف والمهن والتجارات التي زاول ليقيم أوده.
وذات سبت فوجىء بآلاف الشباب يجوبون طرقات المدينة الأندلسية بتطوان. بينهم ثلاث شباب تعرف عليهم أخيرا يحملون في أيديهم هواتفهم وهم يصورون التظاهرة السلمية لشباب حركة عشرين فبراير تقدم إليه أكبرهم، وحدثه عن أن الحركة تحتاج رجلا بخبرته.